كلما ذكرنا كلمة البحر تراودنا في أغلب الأحيان الصورة الشاعرية التي تبعث فينا الطمأنينة والفرحة، لكن هند رجب شرخت تلك الصورة وأضافتها بكل ما تحمله من براءة إلى قائمة الصور والفيديوهات التي تشعرنا بالأسى والضيق، رغم وسع البحر وأمواجه اللامتناهية.

فالأمنية الأخيرة والوحيدة التي كانت تتعايش مع هند وقت الحرب على غزة، هي زيارة لشاطئ وبحر تتجدد فيه أحلامها مع كل زبد موج جديد، لتتقاسم معه هند نصاع بياض قلبها، والتلاشي في آخر القصة كأنها لم تكن.

ففتاة في ربيعها السادس جعلت من العودة إلى البحر دليلاً على النجاة، ليلتقي لون شعرها البني المصفر خلسة مع لون يميل لغروب شمس تغيب وراء أملها (البحر)، كغياب لضمير حكام قُتل أمام أعينهم أطفال ونساء لم يقاوموا غدر الكيان الصهيوني فقط، بل خُذلوا من ساكني القصور العربية واستنشقوا عطر خنوعهم كما استنشقوا رائحة دماء فلذات أكبادهم وأقاربهم قبل الالتحاق بهم إلى مكان أرحب وأفضل، مكان انتقلت إليه هند رجب.

“هند رجب” هي قصة الفيلم الوثائقي الروائي للمخرجة التونسية “كوثر بن هنية” الصادر مؤخراً والحائز على ست جوائز مرموقة بمهرجان البندقية في دورته الثانية والثمانين، وجائزة الأسد الفضي، حاظيا بأربعةً وعشرين دقيقة من التصفيق المستمر.

كما مكّن الفيلم المخرجة من تمثيل تونس بحفل جوائز الأوسكار في دورته الثامنة والتسعين، لتكون بذلك المرأة العربية الأولى التي تترشح ثلاث مرات لهذا الحفل؛ بعد ترشحها بفيلم “على كف عفريت” سنة 2019 وفيلم “الرجل الذي باع ظهره” سنة 2021.

“أمانة تعي خوذيني أمانة” هي جملة هزّت كل من حضر في قاعة “الكوليزي” يوم 12 سبتمبر بالعرض الخاص بالصحفيين، وربما كل من شاهد الفيلم دون استثناء.

صوت “هند رجب” الذي خيّرت “بن هنية” أن تترك الأثر الحقيقي دون المساس به أو دون إدراج أي صورة أو ممثلة أخرى في دور هند، كرسالة أن الصوت المؤثر هو الصوت الحقيقي، لا فقط لهند، بل للوجع والموت الذي يحياه الشعب الفلسطيني منذ بداية الحرب والقصف.

ارتجاف الصوت جعل من الأنفاس الحاضرة تنهيدات تتصاعد بين الفينة والأخرى، كأنها نداءات مكتومة من قلوب تفيض بما لا يُقال.وبالنسبة للبنية السردية للفيلم، فتراوحت بين المشاهد التوثيقية الحقيقية وبين التمثيلية الروائية كمحاولة لدمج مدروس وحذر بين الحقيقة والدراما، على مستوى اختيار المصطلحات والحوار، أو ربما هي خطة استراتيجية لتوسيع نطاق بث الفيلم وإيصال صوت القضية عبر براءة ابنة رجب.

عيون اغرورقت بدموع فتحت باب ذكريات حكاية هند على حين غفلة، انحدر بعضها وتردد البعض الآخر أمام حيرة: من يرثي ومن ينسى؟وبكل هذه الصراعات لمشاعر الحاضرين، تتحول قاعة العرض لفضاء تتلوى فيه الأفئدة بصمت، وينقلب المتفرجون أنفسهم إلى شهود على الجانب الوثائقي للفيلم، نظراً لمواكبتهم للقصة الحقيقية في جانفي 2024.

“لم أكن أعلم خلال قراءتي الفاتحة معها أنها على روحها” هي أول ما صرّحت به موظفة الهلال الأحمر رنا الفقيه بعد عرض الفيلم، في حوار لليوم السابع مع الصحفي أحمد عرفة.

جملة كفيلة بأن تحمل لك ثقل المشاعر التي حطت على قلوب موظفي الهلال الأحمر، حيث اختارت المخرجة بن هنية أن يتم التصوير في مكان مغلق منحصر في مكتب للهلال الأحمر، الذي يستقبل المكالمات ويحاول التنسيق بين المسعفين وجيش الكيان للحصول على “الضوء الأخضر” للخروج وإنقاذ المستنجدين عامة وهند خاصة يوم 29 جانفي 2024.

ومن زاوية تحليلية، فإن انغلاق المكان هو تعبير عن العقدة والمشكل، وهو ما يبرر –ربما– انفلات أعصاب موظفي الهلال خلال مدة الثلاث ساعات التي تفرغ فيها المكتب لإنقاذ هند رجب لا غير.ليقتصر الطاقم حينها على أربعة أشخاص مكتبياً وشخصين على عين المكان.

ويأتي الانفتاح آخر الفيلم على مشاهد مأساوية حقيقية تبرز علناً أماكن القصف والجثث والأكفان، على عكس ما افتقرته المشاهد التمثيلية، مراوحة مع مشهدي تذكري لبحر يلعب فيه أطفال عائلة رجب.وهو رمز للنهاية المأساوية التي حلّت بهند كما قررتها أيادي الغدر: بنفس الطريقة التي استشهد بها أفراد عائلتها الأربعة الراكبين معها في نفس السيارة، رغم الأمل الذي بُث فيها طيلة ساعات استنجادها.

ليرقص حينها الموت على تقاسيم وجه والدتها الجامدة، كأنها شاطئ لكل تلك التساؤلات والخوف والصراعات الداخلية، كإعلان لنصر الظلم والبهتان.

خوف منعها من مشاهدة الفيلم حتى بعد صدوره، وكأنها تخشى تجدد أمل لقاء ابنتها في الدنيا مع كل تسجيل صوتي استنجادي بالفيلم.

اثنا عشر يوما من التيه بين ركام المدن ونداءات الغياب، انتهت بلقاء زلزل القلوب قبل أن تهزه الشاشات. لقاء يرسم نهاية البحث وبداية الرثاء، في انتظار ذي مفرقين: إما الالتحاق أو الفرج.

لم يفِ البحر بوعد اللقاء، لكنه يعتذر على طريقته، فيهديها سفينة تحمل اسمها في أسطول عالمي منطلق من تونس لكسر الحصار عن غزة.سفينة تمخر عبابه لا لتعيدها، بل لتبقيها حيّة في ذاكرة العالم وتؤكد أن صوتها لم يُخمد برصاص الاحتلال، بل صار صدى لكل شهداء فلسطين.

تقوى السباعي

إظهار التعليقاتإغلاق التعليقات

اترك تعليقًا